كتبت مريم حرب في موقع mtv:
البطريرك اسطفان الدويهي طوباويٌّ جديد على مذبح الكنيسة المارونية اللبنانية، في علامة إيمانية تُرسّخ تجذّر الموارنة وارتباطهم بلبنان الكيان والفكرة.
البطريرك الذي ارتدى الغفارة والمنصفة، كان راعياً أمينًا على رعيته المارونية. أبى أن يتمسّك بالكرسي البطريركي وأجلس كل زائر له عليها. خدم كقدوة “من أراد أن يكون كبيركم فيلكن خادمكم”، على عكس الكثير من المسؤولين والنواب والوزراء وحتى بعض رجال الكهنوت الذين أعمت عيونهم السلطة. هؤلاء تجاهلوا الخدمة وانصبّوا يبحثون عن مصالحهم.
الإهدنيّ الجليل، الذي ذاع صيته لحدّة ذكائه ونهله من العلم والمعرفة من لبنان إلى إيطاليا وأوروبا، أدرك مدى أهميّة التعليم منذ الصغر. ورأى أنّه وبقدر غنى روما ومدارسها لا بدّ من إبقاء الشاب اللبناني في بلده. البطريرك الذي عاش قي القرن السابع عشر أيقن أهمية العنصر الشبابي وتوظيف قدراته وخبراته في البلد وتثقيف وتربية الموارنة. فيما اليوم شبابنا يهاجر وقد فرغ لبنان من مقوّم استمراريته ويفرح بعضنا بصورة مطار ممتلئ بعودة مغتربين. قطاعنا التعليمي ينزف هو الذي خرّج نوابغ وجذب روّاد العلم إلى مدارسه وجامعاته.
“أبو التاريخ الماروني” أو كما يحلو للبعض تسميته “عظيم الأمّة المارونية”، عظيم بحياته وأعماله وكهنوته وبطريركيته وكتاباته ومواقفه. دافع عن إيمانه وشهد له أينما حلّ.
حمل البطريرك الدويهي عصاه في وجه السلطنة العثمانية التي استاءت من دعواته لتحقيق العدالة للموارنة. عارض سياستهم الضريبية التي دفعت بكثير من الفلاحين إلى هجرة أراضيهم.
رفض البطريرك الدويهي أن يكون بطريركًا بفرمانٍ عثماني فطلب التثبيت من الكرسي الحبري ونال مطلبه، ليصبح البطريرك الوحيد الحاصل على الباليوم الذي عادة ما يرتديه حصرًا بابوات روما.
والباليوم هو نسيج من صوف يجمع حول العنق ولهذا الطوق طرفان ينزل أحدهما على الصدر والآخر على الظهر تزيّنهما صلبان سوداء. ويؤخذ صوف هذا الدرع من حملين أبيضين يقدمهما قانونيو مار يوحنا لاتران كل سنة للحبر الأعظم الذي يُبارك عليهما في كنيسة الشهيدة اغنس في يوم عيدها ثمّ يعنى بتربيتهما ورعايتهما راهبات القديس لورنيوس، ويجزّ صوفهما يوم خميس الأسرار وينسج دروعًا توضع يوم عيد مار بطرس على قبره وتبقى هناك إلى اليوم التالي؛ لذلك يقال إنّها أخذت عن جسد القديس بطرس. ولهذا الباليوم دلالة روحيّة واستمراريّة من بطرس الصخرة إلى كلّ بابا مرّ على الكنيسة الكاثوليكيّة.
اعتراض البطريرك على الفرمان وارتدائه الباليوم في تأكيدٍ صريحٍ منه أنّ تثبيته إلهي وليس أرضيًّا، أغاظ السلطنة التي طاردته، فهرب مراراً إلى دير مار شليطا مقبس في غوسطا وإلى مجدل المعوش في الشوف، وكثيراً ما كان يقضي الليالي هارباً في مغاور وادي قنّوبين.
كم نحتاج اليوم إلى مسؤولين يتشبّهون بعنفوان البطريرك الدويهي وغيرته على أبناء رعيته. كم نحتاج إلى مسؤولين يأخذون من لبنان ملجأ وبلداً أخيرًا لهم بدل أن يرهنوه خدمة لمشاريع فانية. كم نحتاج إلى مسؤولين يقرأون التاريخ المسيحي والماروني تحديدًا ويحملون شعلة البطريرك الدويهي في صون الموارنة وضمان بقائهم في بلدهم. كم نحتاج إلى مسيحيين يفهمون الكلمة ويعملون بها، وكم نحتاج إلى موارنة ينحدرون من سلالة الشيم والأخلاق التي تربّى عليها البطريرك الطوباوي ونقلها إلى الأجيال اللاحقة.
نحتاج الكثير في هذا العالم الضائع والمشتّت بالحروب والقتل والدمار. نحتاج الكثير في لبنان الذي سيضيع تاريخه وستضمحلّ هويته وتندثر حضارته. نحتاج الكثير في حياتنا كأفراد بعدما اتُّخذنا بهذا العالم المادي الأرضي.
نحتاج إلى علامة، وها هو البطريرك اسطفان الدويهي علامة فارقة عابرة للزمن وإشارة أخرى الى أنّ الله معنا، ورسالة إلى مسيحيي لبنان وموارنته: ابقوا بأرضكم.